كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)}.
قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} في جوابِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها- وهو الظاهرُ- أنَّه محذوفٌ، أي: نادَتْه الملائكةُ، أو ظهرَ صَبْرُهما أو أَجْزَلْنا لهما أَجْرَهما. وقدَّره بعضُهم: بعد الرؤيا أي: كان ما كان مِمَّا يَنْطِقُ به الحالُ والوصفُ ممَّا لا يُدْرَكُ كُنْهُه. ونقل ابن عطية أنَّ التقديرَ: فلمَّا أَسْلَما أَسْلَما وَتلَّه، قال: كقوله:
فلمَّا أَجَزْنا ساحةً الحَيِّ

أي: فلمَّا أَجَزْنا أَجَزْنا وانتحى، ويُعْزَى هذا لسبيويه وشيخِه الخليلِ. وفيه نظرٌ: من حيثُ اتِّحادُ الفعلَيْنِ الجارِيَيْنِ مَجْرى الشرط والجواب. إلاَّ أَنْ يُقال: جَعَلَ التغايرُ في الآية بالعطفِ على الفعل، وفي البيت يعمل الثاني في ساحة وبالعطف عليه أيضًا. والظاهر أنَّ مثلَ هذا لا يكفي في التغاير.
الثاني: أنه {وتَلَّه للجبين} والواوُ زائدةٌ وهو قولُ الكوفيين والأخفشِ. والثالث: أنه {وناديناه} والواوُ زائدةٌ أيضًا.
وقرأ علي وعبد الله وابن عباس {سَلَّما}. وقُرئ {اسْتَسْلَما}.
و{تَلَّه} أي: صَرَعَه وأسقطه على شِقِّه. وقيل: هو الرميُ بقوةٍ، وأصله: مِنْ رَمَى به على التلِّ وهو المكانُ المرتفع، أو من التليل وهو العنُقُ أي: رماه على عُنُقِه، ثم قيل لكل إسقاطٍ، وإن لم يكنْ على تَلّ ولا على عُنُق. والمِتَلُّ: الرُّمْحُ الذي يُتَلُّ به. والجبينُ: ما اكْتَنَفَ الجبهةَ مِنْ هنا، ومِنْ هنا وشَذَّ جمعُه على أَجْبُن. وقياسُه في القلَّةِ أَجْبِنَة كأَرْغِفَة، وفي الكثرة: جُبُن وجُبْنان كرَغيف ورُغْفان ورُغُفُ.
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)}.
قوله: {نَبِيًّا مِّنَ الصالحين} نصبٌ على الحالِ، وهي حال مقدرة. قال الشيخ: إن كان الذَّبيحُ إسحاقَ فيظهر كونُها حالًا مقدرةً، وإنْ كان إسماعيلُ هو الذبيحَ، وكانت هذه البشارةُ بِشارةً بولادة إسحاقَ، فقد جَعَلَ الزمخشريُّ ذلك مَحَلَّ سؤالٍ قال: فإنْ قلتَ: فرقٌ بين هذا وبين قولِه: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73]: وذلك أنَّ المَدْخولَ موجودٌ مع وجودِ الدخول، والخلودُ غيرُ موجودٍ معهما فقدَّرْت: مُقَدِّرين الخلودَ فكان مستقيمًا، وليس كذلك المبشَّرُ به، فإنه معدومٌ وقتَ وجودِ البشارةِ، وعَدَمُ المبشَّرُ به أوجَبَ عدمَ حالِه؛ لأن الحالَ حِلْيَةٌ لا تقومُ إلاَّ بالمُحَلَّى، وهذا المبشَّرُ به الذي هو إسحاقُ حين وُجد لم تُوْجَدْ النبوَّةُ أيضًا بوجودِه بل تراخَتْ عنه مدةً طويلةً، فكيف يُجْعل {نبيًَّا} حالًا مقدرةً، والحالُ صفةٌ للفاعلِ والمفعولِ عند وجودِ الفعل منه أو به؟ فالخلودُ وإنْ لم يكنْ صفتَهم عند دخولِ الجنة فتَقدِّرُها صفتَهم؛ لأنَّ المعنى: مقدِّرين الخلودَ وليس كذلك النبوةُ، فإنَّه لا سبيلَ إلى أَنْ تكونَ موجودةً أو مقدرةً وقتَ وجودِ البِشارة بإسحاقَ لعدم إسحاق؟ قلت: هذا سؤالٌ دقيقٌ المَسْلَكِ. والذي يَحِلُّ الإِشكالَ: أنه لابد مِنْ تقديرِ مُضافٍ محذوف وذلك قولُه: وبَشَّرْناه بوجودِ إسحاقَ نبيًا أي: بأَنْ يُوْجِد مَقْدرةَ نبوَّتِه، فالعاملُ في الحال الوجودُ لا فعلُ البشارة وبذلك يَرْجِعُ نظيرَ قولِه تعالى: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. انتهى. وهو كلامٌ حَسَنٌ.
قوله: {من الصالحين} يجوز أَنْ يكونَ صفةً ل {نَبِيًَّا} وأَنْ يكونَ حالًا من الضمير في {نبيًَّا} فتكونَ حالًا متداخلةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالًا ثانية. قال الزمخشري: وُرُوْدُها على سبيلِ الثناءِ والتقريظ؛ لأنَّ كلّ نبيّ لابد أَنْ يكونَ من الصالحين.
{وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)}.
قوله: {وَنَصَرْنَاهُمْ} الضميرُ عائدٌ على موسى وهارونَ وقومِهما. وقيل: عائدٌ على الاثنين بلفظِ الجمع تعظيمًا كقولِه:
فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ

{يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1].
قوله: {فكانوا هم} يجوز في {هم} أَنْ يكون تأكيدًا، وأن يكونَ بدلًا، وأَنْ يكونَ فَصْلًا. وهو الأظهرُ.
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)}.
قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ} العامَّةُ على همزةٍ مكسورةٍ، همزةِ قطع. وابنُ ذكوان بوَصْلِها، ولم يَنْقُلْها عنه الشيخُ بل نقلها عن جماعةٍ غيرِه. ووجهُ القراءتَيْن أنه اسمٌ أعجميٌّ تلاعَبَتْ به العربُ فقطعَتْ همزتَه تارةً، ووَصَلَتْها أخرى وقالوا فيه: إلْياسين كجِبْرائين. وقيل: تحتمل قراءةُ الوصلِ أَنْ يكون اسمُه ياسين ثم دَخَلَتْ عليه أل المعرِّفةُ، كما دَخَلَتْ على ليَسَع وقد تقدَّم. وإلياس هذا قيل: هو ابنُ إلْياسين المذكورِ بعدُ، مِنْ وَلَدِ هارونَ أخي موسى. وقيل: بل إلياس إدريسُ. ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله والأعمش وابن وثاب {وإنَّ إدْريس}. وقُرِئ {إدْراس} كإبْرَاهيمَ. وإبراهام. وفي مصحف أُبَيّ وقراءتِه: قوله: {وإن إيْليسَ} بهمزة مكسورة ثم ياءٍ ساكنةٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ثم لامٍ مكسورةٍ، ثم ياءٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ساكنةً، ثم سينٍ مفتوحةٍ.
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)}.
قوله: {إِذْ قَالَ} ظرفٌ لقوله: {لمن المرسلين}.
{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)}.
قوله: {بَعْلًا} القرَّاءُ على تنوينِه منصوبًا، وهو الرَّبُّ بلغة اليمن. سمع ابنُ عباس رجلًا منهم يَنْشُدُ ضالةً فقال آخر: أنا بَعْلُها فقال: اللَّهُ أكبرُ، وتلا الآيةَ. وقيل: هو عَلَمٌ لصنم بعينه، وله قصةٌ في التفسير. وقيل: هو عَلَمٌ لامرأةٍ بعينها أَتَتْهم بضلال فاتَّبعوها، كذا جاء في التفسير. وتأيَّد صاحبُ هذه المقالة بقراءةِ مَنْ قرأ {بَعْلاءَ} بزنة حَمْراء.
قوله: {وتَذَرُوْنَ} يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا على إضمار مبتدأ، وأَنْ يكونَ عطفًا على {تَدْعُون} فيكونَ داخلًا في حَيِّز الإِنكار.
{اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)}.
قوله: {الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ} قرأ الأخَوان وحفص بنصْبِ الثلاثةِ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ: النصبِ على المدحِ أو البدلِ أو البيانِ إنْ قلنا: إنَّ إضافةَ أَفْعَلَ إضافةٌ مَحْضَةٌ. والباقون بالرفع: إمَّا على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو اللَّهُ، أو على أنَّ الجلالةَ مبتدأٌ وما بعدَه الخبرُ. رُوِيَ عن حمزةَ أنَّه كان إذا وَصَلَ نَصَبَ، وإذا وَقَفَ رَفَع. وهو حسنٌ جدًا، وفيه جَمْعٌ بين الرِّوايَتيْن.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)}.
قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله} استثناءٌ متصلٌ مِنْ فاعلِ {فكذَّبوه} وفيه دلالةٌ على أنَّ في قومِه مَنْ لم يُكَذِّبْه، فلذلك اسْتُثْنُوا. ولا يجوزُ أَنْ يكونوا مُسْتَثْنَيْن مِنْ ضمير {لَمُحْضَرون} لأنه يَلْزَمُ أَنْ يكونوا مَنْدَرجين فيمَنْ كَذَّبَ، لكنهم لم يُحْضَروا لكونِهم عبادَ اللَّهِ المُخْلِصين. وهو بَيِّنُ الفسادِ. لا يُقال: هو مستثنى منه استثناءً منقطعًا؛ لأنه يَصيرُ المعنى: لكنَّ عبادَ اللَّهِ المخلصين من غير هؤلاء لم يُحْضَروا. ولا حاجةَ إلى هذا بوجهٍ، إذ به يَفْسُدُ نَظْمُ الكلامِ.
{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)}.
قوله: {على إِلْ يَاسِينَ} قرأ نافعٌ وابن عامر {على آلِ يَاسِينَ} بإضافةِ {آل} بمعنى أهل إلى {ياسينَ}. والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب {ياسين} كأنه جَمَعَ إلياس جَمْعَ سلامةٍ. فأمَّا الأُوْلى: فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه. وقيل: المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ، فيكونُ له اسمان. وآلُه: رَهْطُه وقومُه المؤمنون. وقيل: المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل: هي جمعُ إلياس المتقدمِ. وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه، والأَشعثِ وقومِه، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ. ثم اسْتُثْقِل تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان: إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين، فصار إلياسين كما ترى. ومثلُه: الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون. قال:
قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ

وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند {الأَعْجَمِيْن}. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا: بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال: على الإِلياسين. قلت: لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال: الزيدان، الزيدون، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم: جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما.
وقرأ الحسن وأبو رجاء {على إلياسينَ} بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن. وقرأ عبد الله {على إدْراسين} لأنَّه قرأ في الأول {وإنَّ إدْريَس}. وقرأ أُبَيٌّ {على إيليسِيْنَ} لأنه قرأ في الأول {وإنَّ إيليسَ} كما حَرَّرْتُه عنه. وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس.
{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)}.
قوله: {مُّصْبِحِينَ} حالٌ. وهو مِنْ أَصْبح التامَّة بمعنى داخلين في الصباح. ومنه إذا سَمِعْتَ بسُرى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِح أي: مُقيم في الصباح. وقد تقدَّم ذلك في سورة الروم.
{وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)}.
قوله: {وباليل} عطفٌ على الحالِ قبلها أي: ومُلْتبسِيْنَ بالليل.
{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)}.
قوله: {إِذْ أَبَقَ} ظرفٌ للمرسَلين، أي: هو من المرسلين حتى في هذه الحالة. وأَبَقَ أي: هَرَبَ. يُقال: أَبَقَ العبدُ يَأْبِقُ إباقا فهو آبِقٌ، والجمع أُبَّاق كضُرَّابِ. وفيه لغةٌ ثانية: أَبِقَ بالكسر يَأْبَق بالفتح. ويَأْبِقُ الرجل يُشَبَّه به في الاستتار. وقولُ الشاعر:
قد أُحْكِمَتْ حَكَماتِ القِدِّ والأَبَقا

قيل: هو القِنَّبُ.
{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)}.
قوله: {فَسَاهَمَ} أي: فغالَبَهم في المساهمة، وهي الاقتراعُ. وأصلُه أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ على مَنْ غلب.
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)}.
قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} حالٌ. والمليمُ: الذي أتى بما يُلامُ عليه. قال:
وكم مِنْ مُليْمٍ لم يُصَبْ بمَلامَةٍ ** ومُتَّبَعٍ بالذَّنْبِ ليس له ذَنْبٌ

يقال: ألام فلانٌ أي: فَعَلَ ما يُلامُ عليه. وقُرِئ {مَليم} بفتح الميم مِنْ لامَ يَلُوْمُ، وهي شاذَّةٌ جدًا إذ كان قياسها {مَلُوْم} لأنَّها مِنْ ذوات الواوِ كمَقُول ومَصُون. قيل: ولكنْ أُخِذَتْ من لِيْم على كذا مبنيًا للمفعول. ومثلُه في ذلك: شُبْتُ الشيءَ فهو مَشِيْب، ودُعِيَ فهو مَدْعِيّ، والقياسُ: مَشُوْب ومَدْعُوّ، لأنَّهما مِنْ يَشُوْبُ ويَدْعُو.
{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)}.
قوله: {فِي بَطْنِهِ} الظاهرُ أنه متعلِّقٌ ب {لَبِثَ} وقيل: حالٌ أي: مستقرًا.
{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)}.
قوله: {بالعراء} أي: في العَراء نحو: زيد بمكة. والعَراءُ: الأرضُ الواسعةُ التي لا نباتَ بها ولا مَعْلَمَ، اشتقاقًا من العُري وهو عَدَمُ السُّتْرَةِ، سُمِّيَتِ الأرضُ الجَرْداء لعدم اسْتِتارها بشيء. والعُرا بالقصر: الناحيةُ. ومنه اعتراه أي: قَصَدَ عُراه. وأما الممدودُ فهو- كما تقدَّم- الأرضُ الفَيْحاء. قال:
ورَفَعْتُ رِجْلًا لا أخافُ عِثارَها ** ونَبَذْتُ بالمَتْن العَراء ثيابي

{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)}.
قوله: {مِّن يَقْطِينٍ} هو يَفْعيل مِنْ قَطَنَ بالمكانِ إذا أقام فيه لا يَبْرَح. قيل: واليَقْطِيْنُ: كلُّ ما لم يكُنْ له ساقٌ مِنْ عُوْدٍ كالقِثَّاء والقَرْعِ والبِطِّيخ. وفي قوله: {شجرةً} ما يَرُدُّ قولَ بعضِهم إن الشجرةَ في كلامهم ما كان لها ساقٌ مِنْ عَوْدٍ، بل الصحيحُ أنها أَعَمُّ. ولذلك بُيِّنَتْ بقولِه: {مِنْ يَقْطِين}. وأمَّا قولُه: {والنجم والشجر} [الرحمن: 6] فلا دليلَ فيه لأنه استعمالُ اللفظِ العامِّ في أحدِ مَدْلولاته. وقيل: بل أَنْبَتَ اللَّهُ اليَقْطِيْنَ الخاصَّ على ساقٍ معجزةً له فجاء على أصلِه ولو بَنَيْتَ من الوَعْد مثلَ: يَقْطين لقلت: يَوْعِيْد لا يُقال: تُحذف الواوُ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرٍ ك {يَعِدُ} مضارعَ وَعَد؛ لأنَّ شَرْطَ تلك الياءِ أَنْ تكونَ للمضارعةِ. وهذه مِمَّا يَمْتَحِنُ بها أهلُ التصريفِ بعضَهم بعضًا.
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)}.
قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} في أو هذه سبعةُ أوجهٍ قد تقدَّمَتْ بتحقيقِها ودلائلها في أولِ البقرةِ عند قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [الآية: 19] فعليكَ بالالتفاتِ إليهما ثَمَّةَ: فالشَّكُّ بالنسبةِ إلى المخاطبين، أي: إن الرائي يَشُكُّ عند رؤيتِهم، والإِبهامُ بالنسبةِ إلى أن الله تعالى أَبْهَمَ أمْرَهم، والإِباحةُ أي: إن الناظرَ إليهم يُباح له أن يَحْزِرَهم بهذا القَدْر، أو بهذا القَدْرِ، وكذلك التخييرُ أي: هو مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَحْزِرَهم كذا أو كذا، والإِضرابُ ومعنى الواوِ واضحان.
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)}.
قوله: {فاستفتهم} قال الزمخشريُّ: معطوفٌ على مثلِه في أولِ السورة، وإنْ تباعَدَتْ. قال الشيخ: وإذا كانوا قد عَدُّوا الفصلَ بجملةٍ نحو: كُلْ لحمًا واضْرِب زيدًا وخبزًا من أقبح التركيبِ، فكيف بجملٍ كثيرةٍ وقِصَصٍ متباينةٍ؟ قلت: ولقائلٍ أن يقول: إنَّ الفَصْلَ- وإنْ كَثُرَ بين الجملِ المتعاطفةِ- مغتفرٌ. وأمَّا المثالُ الذي ذكره فمِنْ قبيلِ المفرداتِ. ألا ترى كيف عطف خبزًا على لَحْمًا؟
{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)}.
قوله: {وَهُمْ شَاهِدُونَ} جملةٌ حاليةٌ من الملائكة. والرابطُ: الواوُ، وهي هنا واجبةٌ لَعدم رابِطٍ غيرِها.
{وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)}.
والعامَّةُ على {وَلَدَ اللَّهُ} فعلًا ماضيًا مسندًا للجلالةِ أي: أتى بالولد، تعالى اللَّهُ عَمَّا يقولون عَلُوًَّا كبيرًا. وقُرِئ {وَلَدُ اللَّهِ} بإضافة الولد إليه أي: يقولون: الملائكةُ وَلَدُه. فحُذِف المبتدأُ للعِلْمِ به، وأُبْقِيَ خبرُه. والوَلَدُ: فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض؛ فلذلك يقع خبرًا عن المفردِ والمثنى والمجموع تذكيرًا وتأنيثًا. تقول: هذي وَلَدي، وهم وَلَدي.
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)}.
قوله: {أَصْطَفَى} العامَّةُ على فتحِ الهمزة على أنها همزةُ استفهامٍ بمعنى الإِنكارِ والتقريعِ، وقد حُذِفَ معها همزةُ الوَصْلِ استغناءً عنها.
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشيبةُ والأعمش بهمزةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابتداءً وتَسْقُطُ دَرْجًا. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على نيةِ الاستفهامِ، وإنما حُذِفَ للعِلْمِ به. ومنه قولُ عُمَرَ بن أبي ربيعة:
ثم قالُوا تُحِبُّها قلتُ بَهْرًا ** عددَ الرَّمْلِ والحَصَى والترابِ

أي: أتُحبها. والثاني: أن هذه الجملةَ بَدَلٌ من الجملة المحكيَّةِ بالقول، وهي {وَلَدَ اللَّهُ} أي: يقولون كذا، ويقولون: اصطفى هذا الجنسَ على هذا الجنس. قال الزمخشري: وقد قرأ بها حمزةُ والأعمشُ وهذه القراءة وإنْ كان هذا مَحْمَلَها فهي ضعيفةٌ والذي أَضْعَفَها أنَّ الإِنكارَ قد اكتنف هذه الجملةَ مِنْ جانَبيْها وذلك قولُه {وإنهم لَكاذبون} {مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فمَنْ جَعَلَها للإَثباتِ فقد أَوْقَعها دخِيلةً بين نَسِيبَيْنِ. قال الشيخ: وليسَتْ دخيلةً بين نَسِيْبَيْن؛ لأنَّ لها مناسَبةً ظاهرةً مع قولِهم: {وَلَدَ اللَّهُ}. وأمَّا قولُه: {وإنهم لَكاذبون} فهي جملةُ اعتراضٍ بين مقالتَيْ الكفرة جاءَتْ للتنديدِ والتأكيدِ في كَوْنِ مقالتِهم تلك هي {مِنْ إفْكِهم} ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ {آصْطفى} بالمدِّ. قال: وهو بعيدٌ جدًا.
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)}.
قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} جملتان استفهاميتان ليس لإِحداهما تَعَلُّقٌ بالأُخْرى من حيث الإِعرابُ، استفهم أولًا عَمَّا استقرَّ لهم وثَبَتَ، استفهامَ إنكار، وثانيًا استفهامَ تعجيب مِنْ حُكْمِهِم بهذا الحكم الجائرِ، وهو أنهم نَسَبوا أَخَسَّ الجنسَيْن وما يَتَطَّيرون منه، ويَتَوارى أحدُهم مِنْ قومِه عند بِشارَتِه به، إلى ربِّهم، وأحسنَ الجنسيْنِ إليهم.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)}.
قوله: {إِلاَّ عِبَادَ الله} مُسْتثنى منقطعٌ. والمستثنى منه: إمَّا فاعلُ {جَعَلُوا} أي: جعلوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَبًا إلاَّ عبادَ الله. الثاني: أنه فاعلُ {يَصِفُوْن} أي: لكن عباد الله يَصْفُونه بما يَليق به تعالى. الثالث: أنه ضمير {مُحْضَرون} أي: لكنَّ عبادَ الله ناجُوْن. وعلى هذا فتكون جملةُ التسبيحِ معترضةً. وظاهرُ كلامِ أبي البقاء أنه يجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً متصلًا لأنه قال: مستثنى مِنْ {جَعَلُوا} أو {مُحْضَرون}. ويجوزُ أَنْ يكونَ منفصلًا فظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ الوجهين الأوَّلين هو فيهما متصلٌ لا منفصِلٌ. وليس ببعيدٍ كأنه قيل: وجَعَل الناسَ. ثم استثنى منهم هؤلاء وكلَّ مَنْ لم يجعل بين الله تعالى وبينَ الجِنَّةِ نَسَبًا فهو عند الله مُخْلصٌ من الشِّرْك.